الملك المؤسس: أسندت إليه الخارجية.. وكلفه بالمهمات الدولية
الفيصل.. نائب للمليك.. ورئيس المؤسسات التشريعية والأمنية
الملك فيصل جامعة عالمية.. وكان أمّة لوحده
http://www.a6iaf.net/up/upfiles/BS342733.bmp
الحديث عن الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله حديث لايمكن أن تحده مساحة أو تحصره مسافة لأن الفيصل لايمثل تاريخ أمة محصورة المكان والسكان.. فقد تجاوز بأعماله وتأثيره حدود المكان.. ويتسع لمنجزاته الزمان وهناك من يعرف الفيصل عن قرب.. ومنهم من تعرف عليه من أعماله وتعامله وشرحه وأفكاره. وبرغم كل الذين عرفوه ملكاً وقائداً وسياسياً ومحرراً وعالماً بأحوال الأمم ومعرفته بأنساب الناس.. لعل من حقي أن أقول: أنهم لم يعرفونه كما ينبغي ولم يدركوه كما يجب لأن تعاملاتهم مع هذه الشخصية التاريخية جاءت على مرتكزات متباينة فكثير ممن تعامل معه تعامل تحت هيبة السلطة وسطوة السلطان.. أو تعامل معه تعامل السياسي الخبير.. ورجل الدولة المحنك.. ومنهم من تعامل مع الفيصل على مرتكزين.. الأول من موقعه السياسي في الساحة الدولية والثاني من ثقل موقع المملكة في كافة الأوساط العربية والاسلامية والدولية إلى جانب التأثير الاقتصادي الداعم للمواقف السياسية لذا كان الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله في نظر مؤرخي الدول ومحللي السياسات هو المؤسس الثاني لكيان المملكة العربية السعودية.
ان الملك عبدالعزيز رحمه الله قد مكنه الله تعالى من توحيد الممالك المتعددة والإمارات المختلفة فأصبحت كياناً واحداً يشكل أكبر وحدة عرفتها الأمة العربية في القرن العشرين بعد أن تهاوت الخلافة الاسلامية وأفشل مشروع الوحدة العربية وبكل الأشكال لأن ذلك كان يتعارض ومناطق النفوذ المتفق عليها في المعاهدات الثنائية والرباعية لتصل بنا النتيجة إلى ايجاد دولة يهودية حاجزة تسهم في ضمان قيام وحدة عربية مستقبلية.
في تلك الفترة تمكن الملك عبدالعزيز من توحيد المفرّق وتجميع المجزأ في كيان سياسي له تأثيره في مناطق نفوذ الدول المسيطرة على المنطقة الاسلامية والعربية تحت مسميات مختلفة ولم تحقق تلك الوحدة أثرها وتأثيرها إلا بعد أن بايعه أهل الحجاز ملكاً على الحجاز إلى أن استبدل اللقب السلطاني بملك المملكة العربية السعودية عام 1351هـ 1932م أصبح للمملكة تأثير سياسي على المناطق الاسلامية لعلاقة عموم المسلمين وفي جميع أنحاء العالم بالمسجد الحرام وعلمائه المؤثرين تأثيراً مباشراً في تعامل الشعوب الاسلامية مع الأنظمة الحاكمة في بلدانهم.
وبرغم توحيد الكيان في مسمى سياسي واحد هو المملكة العربية السعودية غير أنه ظل اسماً يسعى إلى التطبيق مع مستجدات الأحداث ومصادر التمويل ولما كان الحجاز أو مملكة الحجاز هي وحدها التي تكاملت فيها النظم الإدارية والتعليمات السياسية رأى الملك عبدالعزيز تغمده الله برحمته أن القادر بعون الله على ترسيخ مفهوم إدارة الدولة هو نجله الثاني (فيصل) وشكل له ومعه الإدارات الاستشارية حتى بلغ الأمر أن أسند الملك عبدالعزيز مهمة السياسة الخارجية إليه وهو لم يزل يافعاً.. وأصبح ما يسن في الحجاز من أنظمة وتعليمات صادرة عن مجلس الشورى والمجلس البلدي ويقرها مجلس الوكلاء ... يطبق في بقية مناطق المملكة التي كانت تدار إدارة قبلية فكل منطقة مرجعها الأمير والقاضي حتى أدخلت إليها التنظيمات الإدارية.
لقد ورث الفيصل من ابيه دهاء السياسة وحكمة الملك.. حتى إذا انتقل الملك عبدالعزيز إلى الرفيق الأعلى كان قد تجاوز العشرين سنة في الإعداد والاشراف والمتابعة على كل الأنظمة والتشريعات التي انطلقت بها المملكة في التعامل مع العالم الخارجي لكن الباحث في تكامل الاجراءات يجد أن وحدة الكيان السياسي لم تكتمل بنيتها وتوطد أركانها إلا عندما أصبح الملك فيصل ولياً للعهد ورئيساً لمجلس الوزراء.. وهو الكيان الإداري السياسي الذي بموجبه أصبحت الدولة قادرة على إدارة شؤون البلاد من إدارة مركزية واحدة عام 1374هـ وبذلك التاريخ وقيام الإدارة المركزية تحققت الوحدة الشاملة الكاملة.. وأصبح الكيان مسمى ومضموناً وإدارة.
ومن 25/6/1344هـ 10 يناير 1926م ومنذ أن بويع السلطان عبدالعزيز ملكاً على الحجاز وعين الفيصل نائباً عن الملك في الحجاز في 28جمادى الآخرة الموافق 13يناير أصبح الفيصل والنائب العام ورئيس مجلس الوكلاء الذي كلف منها أنظمة مجلس الشورى والوكلاء وولاية العهد والتعليمات الأساسية ونظام الحكم.. إلى أن أعلن عن توحيد المملكة في 17/5/1351هـ بالأمر السامي رقم 2716 فهو نائب الملك في الحجاز لكن بعد ذلك التاريخ أصبح نائب ملك المملكة العربية السعودية في الحجاز، ولما كان الأمير (سعود) قد عين ولياً للعهد بالبرقية رقم 275 في 5/1/1352هـ أصبح الأمير فيصل نائب الملك. وهذا المنصب لم يستمر إلا مع الفيصل رحمهم الله جميعاً وشهدت هذه الفترة الكثير من الاتفاقيات الثنائية والدولية بين المملكة والدول والمنظمات الدولية وكان يوقعها الفيصل نيابة عن الملك إلى أن أصبح رئيساً لمجلس الوزراء بموجب المرسوم الملكي رقم 5/20/1/6498 في 16/12/1373هـ وصدر المرسوم رقم 5/20/1/124في 21/1/1374هـ بالغاء النيابة العامة.
من ذلك الاستعراض الموجز يتضح أن (الفيصل) هو الذي قاد الأمور التنظيمية السياسية والإدارية على امتداد أربعين سنة إلى أن أسندت إليه مهمات الملك متبنياً الخطط الخمسية الانمائية للبلاد، لهذا ذهبت الدراسات العالمية والتاريخية إلى أن الفيصل هو المؤسس الثاني للدولة السعودية الثالثة.. وهو صاحب استراتيجيات إدارة الدولة.
مشاهداتي
لعلي كنت من المحظوظين من أبناء جيلي.. فلقد حظيت بمشاهدة الملك فيصل في عدة مواقف ما زالت منقوشة في ذاكرتي وكلمات استعرضها كأني أراها اليوم.. مشاهداتي لم تكن عن بعد ولم تكن في أفلام وثائقية بل كانت بسبب صحبتي وملازمتي لوالدي الشيخ ماجد فيروزي رحمه الله الذي كان يشغل منصب مدير عام عين زبيدة قبل تحويل مسماها (مصلحة المياه).
كان والدي رحمه الله من المعجبين بالملك فيصل إلى درجة الافتتان وكثيراً ما كان يحدثنا عن الملك فيصل.. إلى أن طبعت في أذهاننا أنا وأخوتي صورة الفيصل بشكل لايمكن أن يفارق مخيلتنا.. خاصة وكانت ظروف سكننا في الطائف كانت تتيح لنا مشاهدته بشكل يومي. ونقف لتحيته وهو يرد تحيتنا بعين صقر وابتسامة سبع وتلويحة أب، كان الفيصل يمر يومياً من شارع الجيش بالطائف وهو قادم من قصر العقيق فيتجه إلى دكة شهار أو إلى منزل الأميرة سارة والأمير فيصل بن سعد وكانت ساعات مروره ثابتة.. حتى كنا نعتقد من كثرة مشاهدته لنا في نفس الساعة والمكان أننا قد أصبحنا جزءاً من المكان.
كنا نسكن في شارع الجيش بالطائف في الثمانينيات الهجرية وكان هذا الشارع هو طريق مركبات الجيش وجيبات الخبراء العسكريين وخاصة الغربيين الذين كنا ننعتهم بالأمريكان وكانوا يسكنون في بعض مناطق المثناة.. وكان والدي رحمه الله لايأتي إلينا إلا كل اسبوعين نـظراً لوعورة طريق الطائف السيل... ولما كنت متعلقاً بوالدي أيما تعلق كنت لا أفارقه طيلة بقائه في الطائف وكثيراً ما كان يمضي وقته متنقلاً ما بين قصر العقيق.. وقصر شبرا.. وهو قصر الحكم.. أما وجبة العشاء فكثير ما كانت على مائدة (الفيصل).
لقائي الأول وقصر العقيق
كنت أشاهد الملك فيصل في سيارته (النيوكر البيضاء) على المقعدة الأمامية.. ويقود سيارته عمر باجابر.. أما المؤخرة الخلفية كان بها رجلان دائمان سألت عنهما وعرفت أخيراً أنهما سمو الأمير فيصل بن سعد والشيخ سلطان الجبر واتضحت رؤيتي لهما عندما شاهدتهما مع الفيصل في زيارة للأمير فهد بن سعد في الوقاديه بجوار بيوت (القامة) ونشاهدهم جميعاً يحتسون القهوة العربية على (الدكة) مدخل البيت من دور واحد.
وبعد أن حصلت على الشهادة الابتدائية وحضر والدي إلى الطائف وكان عازماً على زيارة الملك فيصل للسلام على جلالته (اتشعبط في والدي) إلى أن صحبني معه ولما لم يكن لدي (مشلح أو بشت) وكان جو الطائف بارداً ارتديت (البالطو ـ الجاكيت الطويل) فصحبني والدي إلى قصر الملك فيصل بالعقيق الذي يتميز بأشجار ذات الزهور والألوان الزاهية والغريبة. وكان ما أبسط الدخول على الملك فيصل.. صلينا المغرب في بيتنا بالقرب من القصر وذهبنا.. فوجدت أناساً في بهو القصر وقوفاً في انتظار قدوم الملك.. ولم يكن أناس كثيرون لم يتجاوزوا العشرين.. سلم والدي عليهم وسلمت معه وداعبه بعضهم واجابهم ثم اتجهنا إلى القاعة الكبرى على يسار الداخل من بوابة القصر وما هي إلا دقائق أو أقل حتى أقبل الملك فيصل رحمه الله بطلته المهيبة (فزّ) من كان في المجلس.. فوقفت معهم حسب تعليمات والدي رحمه الله وكانت عيناي واحدة على الملك والطابور القادم للسلام عليه وأخرى على والدي المنتظر منه نظرة أو إشارة تجعلني أقبل مع المصافحين وكان والدي واقفاً مع الواقفين على يسار الملك حتى إذا لم يتبق غير نفر قليل أشار لي بالاقتراب وأخذت اتصرف حسب الدرس الذي تلقيته ونحن في طريقنا للقصر حتى كان آخر الطابور.. تقدم والدي وخطوت خلفته فسلم والدي حتى إذا ما مددت يدي فاجأني صوت جلالته (أنت ناجح) وارتبكت ولم أجد ما أجيب به بغير ما فتح الله به عليّ (إن شاء الله) قال جلالته: الآن أسلم عليك ومد يده فحاولت تقبيلها فسحبها.. فجلس جلالته في مكانه وجلس والدي قريباً منه وذهبت إلى مكاني في آخر المجلس. وانشغل الناس بالحديث مع الملك وانشغلت أنا بأمرين.. سؤال جلالته وأبعاده.. الأمر الآخر استرجع في ذاكرتي موقف جلالته مع أخيه الملك سعود رحمهما الله في (الهدى) يوم افتتاح الطريق في موقع الفلل الواقعة على يمين الواصل إلى الهدى أو على يسار النازل إلى مكة.. وكنت يومها واقفاً في صفوف الوقوف القريبين من المنصة الملكية.. كيف كان موقف هذا الملك المهيب يومها وكيف انثنى على أخيه سعود واستند على (ركبته) ليصل ويشد من رباط حذاء شقيقه.. وتوقف الاستعراض بوقوف الملك واتجه إلى الصالة المقابلة والجمع خلفه إلى صالة العشاء وكنت معهم فرأيت الملك المهيب رحمه الله كيف يداعب الناس فوق العشاء ويتفقدهم وهو لايتناول من تلك الملذات سوى حساء وأكل مخصوص.. لأسباب صحية كما عرفت وليس تكبراً أو تعالياً.. ولا اعتقد أن من يحضرون للسلام عليه ما بين المغرب والعشاء وتناول العشاء مع جلالته إلا الخاصة والقليل من الضيوف أو الرسميين خرجت مع والدي.. بعد أحاديث طالت مع الشيخ محمد النويصر والوالد عبدالله كامل والشيخ صالح العباد.. بعد أن صعد جلالته إلى الطابق الأعلى وعرفت أن طلوعه للراحة القليلة ثم يعاود النزول إلى المكتب ليباشر قضايا الأمة ويبت فيها ويشرح عليها وغالباً ما كانت بالقلم الرصاص (أبو تمساح).
خرجت وفي ذهني العديد من الصور عن ذلك الملك العظيم وتعلمت في تلك الليلة ما لم يدركه غيري في الجامعة أو الملتقيات (للحديث بقيه)