في لطائف الحديث :
1- أول ما يستوقف المتأمل في هذا الحديث الكريم ؛ هو قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يبعث اللهُ " .. ! وهو بذلك يقذف في قلب المستمع من أول وهلة سيلاً من الثقة والإيمان يشي بعناية ورعاية المولى ـ تبارك وتعالى ـ للمجدد .. وكلمة البعث هنا توحي بأن الله تعالى يرسل لهذه الأمة من يصطفيه ويجتبيه من عباده ليحمل أمانة التجديد وتبعة النهضة ومسؤولية الإحياء . وكأن المجددين هم رسل الله بعد الأنبياء غير أنه لا نبي بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ !
2- وانظر إلى قوله : " لهذه الأمة " .. نعم .. قوله : " لهذه الأمة" .. فالتجديد الإسلامي يهدف بالأساس مصلحة هذه الأمة جمعاء ، وكل مصالحها السياسية والاقتصادية والفكرية والتربوية ... الخ ، كما أن المجدد ليس بالذي يعيش لنفسه ، أو يعيش معزولاً عن الأمة، حبيس الكتب والمكتبات .. إنه بذلك يعيش من أجل نفسه بل من أجل شهواته ، يعيش من أجل أن يشبع بطنه بحبر قلمه ! ولكن المجدد الحقيقي هو الذي يعيش بكل كيانه لهذه الأمة ، ولأبناء هذه الأمة مهما كان مكانهم ومهما كان حالهم ومهما كانت أرضهم ! .. " إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة ، حينما نعيش للآخرين"(9).
3- ثم قال : " على رأس كل مائة سنة " .. ومعروف أن رأس الشيء أعلاه ، ورأس الشهر أوله ، ورأس المال أصله .. هنا يتساءل الشراح عن بداية المائة .. فقال المناوي : " يحتمل من المولد النبوي، أو من البعثة، أو من الهجرة، أو الوفاة.. ولو قيل بأقربية الثاني ( أي البعثة) لم يبعد، لكن صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث "(10) (أي الهجرة ). قال القرضاوي ـ حفظه الله ـ : " وذلك لأنهم في حديثهم عن المجددين اعتبروا التاريخ الهجري هو الأساس ، وهو معقول ؛ لأنه التاريخ الذي ألهم الله المسلمين منذ عهد عمر أن يؤرخوا به دون غيره ، فلم يعتمدوا المولد ولا البعثة ولا الوفاة ."(11). هذا وقد قال بعضهم في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " على رأس كل مائة سنة" .. يعني في أولها، وقال آخرون بل في آخرها ، كما يلاحظ أن أكثرهم جعلوا العبرة بوفاة المجدد في رأس القرن ، كما يظهر ذلك في وفيات الذين عينوهم : فعمر بن عبد العزيز توفي ـ رحمه الله ـ في سنة 101هـ، والشافعي توفي ـ رحمه الله ـ في سنة 204هـ ، وابن سريج (ت306هـ)، والباقلاني (ت403هـ)،والغزالي (ت 505هـ)، والرازي (ت606هـ)، وابن دقيق العيد (ت 703)، والعراق (ت 808هـ)(12) . لكنهم " لم يذكروا إماماً مثل ابن تيمية برغم حركته التجديدية الضخمة في الفكر الإسلامي بمختلف جوانبه؛ لأنه تأخرت وفاته عن رأس المائة (ت 728هـ)..!! " (13) .
فالحق أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل : إن الله يتوفى المجدد على رأس القرن ، بل يبعثه على رأس القرن . ومعناه : أن مهمة المجدد تبدأ في رأس القرن ، كما أن مهمة كل نبي تبدأ من أول يوم بعث فيه ! ولقد فطن إلى هذه الحقيقة المناوى ـ رحمه الله ـ فقال : وهنا تنبيه ينبغي التفطن له، وهو أن كل من تكلم على حديث " إن الله يبعث ..." إلخ، إنما يقرره بناء على أن المبعوث على رأس القرن يكون موته على رأسه. وأنت خبير بأن المتبادر من الحديث إنما هو: أن البعث ـ وهو الإرسال ـ يكون على رأس القرن ، أي أوله . ومعنى إرسال العالم : تأهله للتصدي لنفع الأنام، وانتصابه لنشر الأحكام . وموته على رأس القرن أخذ لا بعث ! فَتَدَبَّرْ بإنصاف . ثم رأيت الطيبي قال : المراد بالبعث من انقضت المائة وهو حي عالم مشهور مشار إليه . والكرماني قال : قد كان قبيل كل مئة أيضاً من يصحح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه "(14) . ثم ذكر المناوي : " أنه قد يكون في أثناء المائة من هو كذلك، بل قد يكون أفضل من المبعوث على الرأس وأن تخصيص الرأس إنما هو لكونه مظنة انخرام علمائه غالباً وظهور البدع ونجوم الدجالين" . وهو بذلك يؤكد حقيقة أن المجدد لا يشترط فيه أن يبعث أو يظهر أو يموت على رأس المائة ، وهذا يصدقه التاريخ والواقع. وهو الراجح والله أعلم . كما أن الظاهر ـ والله أعلم ـ أن عدم تحديد المقصود بالرأس، وعدم تحديد المبتدأ، يشي بأن الله تعالى يبعث المجددين كلما دعت الحاجة إليهم ، لاسيما في أزمنة النكبات والفتن والملاحم . ومن ثم يظهر المجددون في أي يوم من أيام السنة ، وفي أي سنة من سنوات القرن ! وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء .
4- أما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من يجدد لها دينها " . فهذا يدل أن الدين المُجدد هو ذلك الذي يعتقده الناس ، لا الدين الخالص الذي أنزله الله ، ولذلك قال : " يجدد لها دينها " فنسب الدين إلى الأمة ، ولم يقل ـ مثلاً ـ : يجدد لها الدين أو يجدد لها دين الله ! فهدف المجدد هو تجديد الدين الذي يتصوره ويعتقده الناس بحيث يتفق والدين الخالص الذي أنزله الله غضاُ طرياً على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
أما بشأن كلمة " من " في الحديث ، والسؤال التقليدي : هل من هنا للفرد أم للجماعة ؟ فأعتقد أن " من " تنطبق على الفرد كما تنطبق على الجماعة .. فقد يكون القائم بالتجديد فرد ، وقد يكون جماعة أو حركة أو مدرسة . فقد يبعث الله تعالى رجلاً يجدد في الفقه السياسي أو الاقتصاد الإسلامي .. كما قد يبعث حركة إسلامية تجدد في المجال التربوي .. أو مدرسة تجديدية تنقي السنة ، أو تجدد في فهم كتاب الله تعالى ..
وفي هذا القرن الذي نعيشه نحتاج إلى حركة تجديدية شاملة متكاملة مستنيرة ، تنهض بهذه الأمة من عثرتها ، وترفعها من كبوتها.
________________________________________
الهوامش :
1- صحيح ـ أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم برقم 3740والحاكم في المستدرك، 4/522، والبيهقي في معرفة السُّنن والآثار، ص 52، والخطيب في تاريخ بغداد 2\61 ، وصحَّحه الألباني في سلسلته برقم 599، 2/150
2- يوسف القرضاوي : من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، القاهرة : دار الشروق، ط 1، 1421هـ- 2001م، ص 13
3- صحيح ـ عن أبي بن كعب : رواه أحمد(5\ 134)، وابن حبان (2\ 132)، والحاكم في المستدرك (4\ 346)، والبيهقي في شعب الإيمان (5\ 334)، و أبو نعيم في الحلية (1\ 255)، و صححه الألباني في الجامع الصغير (514)، و صحيح الترغيب (1\6).
4- صحيح ـ عن أنس : رواه الترمذي(5\ 152)، وأحمد(3\ 130)، وابن حبان(16\ 209)، وأبو يعلى (6\ 380) ، وعن عمار : رواه الطيالسي في مسنده(90)، والبزار( 4\ 244)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (1080) وفي السلسلة (5\ 355).
5- صحيح ـ عن تميم الداري : رواه أحمد(4\ 103)، والحاكم في المستدرك(4\ 477)، والبيهقي في سننه الكبرى (9\ 181)، والطبراني في مسند الشاميين(2\ 79)، وصححه الألباني في السلسلة (1\ 32).
6- صحيح ـ عن ابن عباس : رواه أبو داود(2\ 346)، وأحمد(1\ 321)، وابن حبان (1\ 263)، وعن ثابت بن قيس بن شماس : رواه الطبراني في الكبير(2\ 71)، والبيهقي في الكبرى(10\ 250)، وصححه الألباني في السلسلة(4\ 389).
7- حسن ـ عن حذيفة : رواه أحمد(4\ 273)، والطيالسي في مسنده(58)، وصححه الألباني في السلسلة(1\34) .
8- صحيح ـ عن ثوبان : رواه مسلم 4\2323
9- سيد قطب : أضواء من بعيد ، مجلة الفكر التونسية،العدد السادس ، السنة الرابعة ، آذار " مارس " 1959م
10- المناوي(عبد الرؤوف ): فيض القدير شرح الجامع الصغير(6 أجزاء)، مصر: المكتبة التجارية الكبرى، ط 1 ، 1356، ج 9، ص 9
11- يوسف القرضاوي : من أجل صحوة راشدة ، مصدر سابق، ص 25
12- انظر : السابق، ص 26.
13- السابق ص 27.
14- المناوي(عبد الرؤوف ): فيض القدير ، مصدرسابق ، ج 9، ص 9.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة الفسطاط (المجلة التاريخيه )